الوقف

 تعريف كلمة الوقف:
لغويا الوقف هو الحبس، (فنقول وقفت الدار على المسجد، أي حبسته عليه لينفق من أجرته على مصالحه). و يعني الوقف في الشريعة حبس المال أو وقفه سواء كان على شكل عقار أو محل تجاري أو غيرهما لينفق من ريعه على من يحتاج من طلاب العلم أو اليتامى و الأرامل وغيرهم كنوع من أنواع الصدقة الجارية. 2 و من أفضل تعريفات الوقف أنه (مؤسسة مالية خيرية، تنشأ بمال يتبرع به الواقف، على أن ترصد غلات هذا المال رصداً مستمراً لإشباع حاجات معينة للموقوف عليهم على ما يشترط الواقفون. و بالتالي يعتبر الوقف مؤسسة لها كيانها الاجتماعي المميز و لها مقصدها الخيري المحدد ولها آلية التنفيذ المنظمة).شرع الله الوقف و جعله شكل من أشكال العطاء في الإسلام. و لم يكن الوقف معروفا في عهد الجاهلية و لكن دعا إليه الرسول صلى الله عليه و سلم بعد ظهور الإسلام و شجعه كنوع من أنواع الصدقة الجارية التي يجني الفقراء و المحتاجين ثمارها بصورة مستمرة دون توقف. 4 و لقد شجع الرسول صلى الله عليه و سلم الصدقة الجارية متضمنة الوقف بقوله: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له. و الأساس الديني للوقف يرتبط بالخليفة عمر بن الخطاب في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم عندما حصل على بساتين و حقول كغنيمة له بعد فتح العرب لخيبر. 5 فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخبير لم أحب مالا قط أنفس عندي عنه ، فما تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. فتصدق بها عمر. إنها لا تباع ولا توهب ولا تورث، وتصدق بها في الفقراء وفي الرقاب. وفي سبيل الله، وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول. 6 و منذ ذلك الحدث، انتشر الوقف بين المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم و استمر بعده قرونا طويلة. 7 و يجوز الوقف على أهل الذمة مثل المسيحيين و التصدق عليهم. و قد وقفت صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه و سلم على أخ لها يهودي.
النوع الأول من الوقف هو الوقف الخيري و هو أصل نظام الوقف و يقصد به التقرب إلى الله تعالى بوقف ريع أي شيء مملوك و توجيهه إلى أعمال الخير المختلفة. النوع الثاني هو الوقف الأهلي و يكون على الزوجة و الأولاد و الأقارب و الأحفاد و يقوم الواقف بإدارته ثم يليه أحد الأولاد ثم الأحفاد و هكذا. 9 و هناك الوقف المشترك و يقصد به أن يوقف جزء من ريع الشيء المملوك للأهل و الجزء الآخر لأعمال الخير. و بالتالي تنقسم أنواع الوقف بحسب الجهة التي يذهب إليها ريع الشيء المحبوس.هناك فروقا بين الوقف و الصدقة يجب أن توضح:
الصدقة تجوز فقط على الفقراء و المساكين بينما الوقف يجوز على كل من الفقراء و الأغنياء و إن كان الفقراء أحق به. يجوز التصرف في الصدقة بأن تملك أو تباع و تهب في حين أنه لا يجوز للوقف أن يملك أو يباع أو يورث أو يتصرف فيه بالهبة أو الهدية. يجوز للصدقة أن تكون على أي شيء له نفع سواء كان يبقى مدة محدودة كالطعام و الثياب أو مستمر لفترة طويلة. و ذلك بخلاف الوقف الذي لا يجوز إلا في الأشياء التي من شأنها أن تبقى و ممكن أن تحبس
دور الوقف فى التنمية
لعب الوقف في وقت ازدهاره دورا فعالا في تحقيق التنمية بمفهومها الواسع متضمنة التنمية العلمية و الاجتماعية و الاقتصادية. بدأ دور الوقف التعليمي من المسجد حيث أنه لم يكن فقط مكانا للعبادة و الصلاة و إنما كان مصدرا للعلم حيث كان يقبل عليه الطلاب ليتعلموا من العلماء و المدرسين في مختلف فروع العلم. و لذلك كان المسجد في الحضارة الإسلامية يقوم بدور المدرسة في بادىء الأمر و قد خرج منه الكثير من العلماء. و قد تطور شكل الوقف التعليمي من المسجد و الذي كان نواة التعليم إلى الكتاب الذي كان بمثابة مدرسة صغيرة لتعليم الأطفال القراءة و الكتابة و القرآن و الرياضة. و رغم استمرار الكتاب، إلا أن الوقف التعليمي امتدت صوره ليشمل المدارس التي انتشرت انتشارا واسعا خاصة بعد استقرار الفتوحات الإسلامية. و قد ارتبطت المدارس بالمكتبات حيث أيقن واقفي المدارس أهمية الكتاب في تحصيل العلم و لذلك أوقفوا المكتبات كي يسهلوا العملية التعليمية.12 أما بالنسبة للتنمية الاجتماعية، فقد تنوعت الخدمات الاجتماعية التي قدمتها الأوقاف. فكثير من المسلمين أوقفوا أملاكهم لبناء المستشفيات و علاج المرضى. و لم تقتصر هذه الأموال الموقوفة على علاج الإنسان، إنما أيضا تضمنت الحيوان. و أظهرت الوثائق الوقفية الإدارة الدقيقة و الناجحة التي كانت تتمتع بها المستشفيات الموقوفة. 13 إلى جانب الرعاية الصحية، فقد تنوعت الخدمات الاجتماعية التي قدمتها الأوقاف منها أوقاف لمساعدة الغير قادرين على مصاريف فريضة الحج أو تزويج الفتيات الفقيرات أو بناء أوقاف لليتامى أو المسنين أو المكفوفين.14 كما أن للوقف دورا هاما في التنمية الاقتصادية، و ذلك بسبب عدة عوامل. أولا، ساعد الوقف على انخفاض و استقرار الأسعار و ذلك لأنه كان من اليسير الحصول على محال تجارية مخفضة الأسعار بالأسواق الموقوفة، مما أدى إلى انخفاض الأسعار و رواج التجارة بها أكثر من الأسواق التي ليس بها أوقاف. و أدى ذلك أيضا إلى انخفاض الأسعار في الأسواق الأخرى حتى تستطيع أن تروج سلعها و تجاري أسواق الأوقاف. و بالتالي فإن الوقف على الأسواق ساعد كثيرا على إلزام التجار بأسعار منخفضة حتى لا تبور تجارتهم. ثانيا، ساعدت الأوقاف على الحد من البطالة و توفير فرص عمل كثيرة و تنمية المهارات. ثالثا، ساعد الوقف على حصول الفئة الفقيرة على أموال لم تكن لتحصل عليها بدونه مما ساعد على الإكثار على الطلب على كثير من السلع و الخدمات التي كانت ستكون مقصورة على الطبقة الغنية لولا الوقف، مما ساعد على تنشيط التجارة و تداول الأموال و السلع. ثالثا، إلى جانب تنشيط التجارة الداخلية الذي أدى إلى التنمية الاقتصادية، فإن السبيل أو الوقف على أحواض المياه الواقعة على الطرق التجارية الهامة ساعدت بصورة فعالة على تنشيط التجارة و تيسير مرور القوافل التجارية و التنقل بين المدن و القرى.
نبذة تاريخية عن الوقف
يرجع تاريخ الوقف الإسلامي اليوم إلى أكثر من 14 قرنا مع ظهور الإسلامً و قد شغل جزءا كبيرا من العالم العربي والإسلامي على مر العصور. و يعد الوقف من أهم أشكال العطاء المؤسسي التي حث عليها الإسلام و التي انتشرت بصورة واسعة. و خلال هذه القرون، قام الكثيرون في مصر بوقف أملاكهم. و لم يقتصر الوقف فقط على الأغنياء، إنما شمل أيضا الطبقة المتوسطة حتى وصل نسبته إلى أكثر من ثلث الأراضي الزراعية في عهد محمد علي. و قد استمر الوقف في نموه المتزايد حتى أصبح يشغل 770,000 فدان في عام 1925 في مصر رغم أنه أصبح يعاني من بعض المشاكل مثل سوء الإدارة. و لكن بعد ثورة 1952 و مع ظهور الفكر الاشتراكي الذي تبنته الحكومة و الذي يؤمن بالتحكم الكامل للسلطة و وضع مسؤلية التنمية الاجتماعية و الاقتصادية كاملة في يد الحكومة، انهار نظام الأوقاف انهيارا كاملا حيث ألغي نظام الوقف الأهلي بينما وضعت الأوقاف الخيرية تحت سيطرة الحكومة. و منذ ذلك الحين، تلاشت ثقافة الأوقاف في المجتمع المصري تدريجيا حتى أصبحت نسبة إنشاء أوقاف جديدة شبه منعدمة.
مصرف أموال الأوقاف هو جهات البر المختلفة : عرفنا عند تعريفنا للمال الموقوف أنه ما وقف على جهة من جهات البر ابتداء وانتهاءً، وبهذه فإن مصارف أموال الوقف تشمل جهات البر والخير المختلفة، ويظهر هذا المعنى من فهم الصحابة رضوان الله عليهم للقرآن الكريم، وتأكيد المصطفى صلى الله عليه وسلم لذلك الفهم. فعندما نزل قوله تعالى ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) ، بادر أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال(" إن الله يقول ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) ، وإن أحب أموالي إلى بيرحاء، إنها صدقة لله تعالى . وبيرحاء حائط كان يستقبل المسجدوكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخله ويشرب من ماء فيه طيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم( أجعلها في قرابتك ، في حسان بن ثابت وابي بن كعب)[25">. وتشمل أبواب البر المشار إليها في الآية الإنفاق على الاقربين كما هو ظاهر من حديث أبي طلحة ، ويشمل الفقراء وابن السبيل وفي الرقاب والضعيف كما في قصة عمر بن خطاب رضي الله عنه : فعن ابن عمر رضي الله عنه عنها " أن أصاب أرضاً من أرض خيبر فقال : يا رسول الله أصبت مالاً بخيبر لم أصب قط مالا خيراً منه ، فما تأمرني؟ فقال: ( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ، غير أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث) قال ابن عمر: فتصدق بها عمر على ألا تباع ولا توهب ولا تورث ، في الفقراء وذوي القربى وفي الرقاب والضعيف وابن السبيل ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول"[26"> . وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم أن البر هو الانفاق في سبيل الخير من صدقة أو غيرها من الطاعات [27"> . ولذلك يشترط الإمام أحمد بن حنبل أن يكون الوقف على بر أو معروف ، فقد نقل أبو زهرة من الشرح الكبير عن المقنع في فقه الحنابلة ، ( أن الوقف لا يجوز إلا في بر أو معروف ، كولده وأقاربه والمساجد والقناطر وكتب الفقه والعلم والقرآن والسقيات والمقابر وفي سبيل الله وإصلاح الطرق ونحو ذلك من القرب)[28"> . ج . الأموال الموقوفة تتمتع بحماية قانونية تضمن لها الاستمرار والدوام : أن أموال الوقف تستمد حمايتها من الاسم الذي سميت به في الإسلام ، فهي وقف لايخرج عن حاله و حكمه. وعندما أجاز الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وقف أرضه التي نالها بخيبر في الحديث الذي أشرت إليه فيما تقدم، وضع له شروطاً معينة حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لا يباع أصلها ـــ أي أصل الأرض ــ ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث). فالرسول صلى الله عليه وسلم عطل جميع التصرفات المرتبطة بملك الإنسان لماله في المال الموقوف لأنه يخرج عن ملك صاحبه، وفي ذلك حماية للموقوف عليهم وضمان لاستمرار النفع العائد من الوقف عليهم ولا تؤثر في هذه الحماية آراء الفقهاء الذين قالوا بجواز تأقيت الوقف، حيث من المعلوم أن الفقهاء في هذه المسألة على فريقين: • جمهورالفقهاء قال بأن الوقف لا يجوز إلاّ على سبيل التأبيد، حيث ذهب إلى ذلك الشافعية والحنابلة والحنفية. • أما الإمام مالك فقال بجواز أن يؤقت الوقف.[29"> وكلا الفريقين يقول بأن المال طالما كان موقوفاً سواء وقفاً مؤبداً أو مؤقتاً فلا يجوز إخراجه عن حالة الوقف، طالما كان يتمتع بهاعلى صفة التأبيد أو لمدة التأقيت. ولهذا فقد منع الفقهاء بيع الوقف واستبداله إلاّ وفق شروط دقيقة حدّدوها. د. منفعة الأموال الموقوفة هي ملك عليهم: يمثل الوقف ملكاً للمنفعة دون العين، فمنافع الوقف مملوكة للموقوف عليهم دون خلاف بين جميع الأئمة في ذلك، وقد علمنا فيما تقدم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وجه أبا طلحة إلى أن يحعل صدقته في قرابته، حسان بن ثابت وأبي بن كعب، بعد أن أراد أبو طلحة أن يجعلها صدقة عامة لله تعالى، يوزع الحاكم منافعها في الوجوه التي يراها. وكذلك علمنا أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ملك منافع أرضه التي وقفها بخيبر، للفقراء وذوي القربى وفي الرقاب والضيف ابن السبيل، فكل من دخل تحت جنس من هذه الأجناس استحق الانتفاع مما يخرج من هذه الأرض. وفي الجملة فإن الجهات التي يحددها الواقف هي الجهات التي تملك منافع الوقف. فإن وقف على الطلاب لا يصح إخراج المنافع عنهم، وإن وقف المسجد لا يصح صرف منافع وقفه في غيره، إن وقف شخص ماله على ذريته لا يصح إعطاء من لا يستحق منهم، وهكذا الحال في كل وقف حدد صاحبه أبواب صرف ريعه. ولا نريد أن نتحدث عن اختلاف الفقهاء في كل من ملك المنفعة وملك الانتفاع[30">، لأننا بحديثناهذا نعالج موضوعاً معيناً وهو أن مالكاً وقف جزءاً من ماله، عقاراً كان أو غيره، على جهة من الجهات البر، فهذه الجهة تملك المنفعة والانتفاع بما يخرج من هذا المال سواءً كان رابحاً أو أجرةً أو سكناً أو غير ذلك، تمشياً مع رأي الفقهاء من أن المنفعة تملك بواسطة عقد مملك، ومن بين العقود المملكة الإجارة والإعارة والوصية بالمنفعة والوقف كما وضحنا في مطلع هذا الموضوع، حيث ذكرنا أن الوقف هو ملك منفعة. هــ . المال الموقوف ليس مالاً خاصاً ولاعاماً بالمعنى المطلق: يتبادر إلى ذهن كل باحث ومطلّع السؤال التالي: هل المال الوقوف هو مال خاص أم مال عام أم هو غير ذلك؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى أصل المال الموقوف، فأصل المال الموقوف هو مال مملوك ملكية خاصة، حيث اتفق الفقهاء على أن الوقف لا يصح إلاّ في عين مملوكة لصاحبها ملكاً تاماً، وأن تكون معرفة تعريفاً كاملاً ولو على سبيل الشهرة[31">، ذلك أن المال صدقة من الصدقات التي حثت عليها الشريعة الإسلامية, والصدقة لا تكون إلا من طيب المال المملوك وغير المملوك لا تصح فيه التصرفات لأن غير المالك لا يقدر على التصرف في غير مال غيره. ولو تصرف فضولي في مال غيره فإن تصرفه يتوقف على موافقة المالك، إن أمضاه بقي وإن ألغاه انتهى. فالوقف حالة استثنائية ترد على المال المملوك فتخرج منفعته عن ملك صاحبها حيث هو أصله مال مملوك ملكية خاصة خرج بالوقف عنها، كما يرى أهل العلم، إلى واحدة من الحالات التالية: • يبقى المال الموقوف في ملك صاحبه ولكنه ملك مقيد لا يملك فيه صاحبه كل التصرفات، قال بذلك مالك وأيده الكمال بن الهمام من الحنفية. • المال الموقوف يخرج من ملك الواقف إلى ملك الموقوف عليهم، قال بذلك بن حنبل في أرجح الروايات. • المال الموقوف يخرج من ملك الواقف ويكون الملك فيه على حكم ملك الله تعالى[32">. والفقهاء لم ينتبهوا في خلافهم هذا إلى البحث عن طبيعة هذا المال بعد أن طرأ عليه هذا الحكم وهو الوقف. فالحديث عن أن المال مازال باقياً في ملك صاحبه حديث غير مقبول لأن من شروط الملك حرية التصرف وهي غير متحققة هنا. ومن شروط الصدقة خروج المال المتصدق به ابتغاء القربة لله تعالى، إلى المتصدق عليه وهو غير متحقق هنالأن التي تخرج عن صاحبها هي الصدقة المستهلكة التي لا تبقى بعد الانتفاع بها، وعليه فإنه لامجال للحديث عن ملك الموقوف لأن الأصل في الوقف هو التصدق بمنفعته وبالتالي فإن ملك الموقوف عليهم يتعلق بالمنافع. والقول الذي يمكن أن يكون مقبولاً من هذه الأقوال هو أن المال الموقوف يخرج من ملك الواقف إلى ملك الله تعالى. والفقهاء لم ينتبهوا إلى أمر هام وهو ضرورة وجود جهة لها ذمة يضاف إليها الملك وتقوم بتحمل الالتزامات و التبعات الناتجة عن هذا الملك، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وكان الأجدر لهؤلاء أن ينسبوا المال الموقوف إلى ملكية الدولة التي ترعى شئون العباد وتقوم بحراسة الدين وسياسة الدنيا، وهي المكلفة بتنفيذ الأحكام الشرعية. وكان يمكنهم أن يقيسوا مال الوقف على مال الزكاة الذي يخرج عن ملك صاحبه ويصبح مالاً عاماً قبل أن يوزع على مستحقيه فيملكونه ملكية خاصة. فالقول بأن المال الموقوف مال عام على وجه الإطلاق لا يصح لأن الدولة هي القائمة على المال العام وليست لها مطلق التصرف فيه لأنها مقيدة بشرط الواقف. فأنسب تعبير يمكن أن نصف بها مال الأوقاف هو أنه مال عام مخصص لمصرف.وهوبهذا المعنى مال خاص ولكنه يختلف عن المال الخاص بمعناه المطلق، فلا تجري عليه أحكام المال الخاص ولا العام على إطلاقهما. وبعض الباحثين( أبو زهرة) يفرق، إذ يتناول بالبحث عن طبيعة ملكية أموال الأوقاف، بين أنواع الوقف المختلفة، حيث يرى أن الأراضي الموقوفة على جماعة المسلمين( على جميع أفراد المجتمع دون تحديد لنوع منهم) كأراضي بني النضير وفدك ونصف أرض خيبر التي رصدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجماعة من المسلمين، أنها أموال عامة وتعتبر جزءاً من الملكية العامة، بينما تعتبر الأوقاف الخيرية الأخرى الموقوفة على جماعة من الأمة الإسلامية غير معروفة بأشخاصها صورة من صور الملكية العامة. ويرد على هذا الرأي بأن الملكية العامة تعطي حرية التصرف للدولة كجهة مسئولية عن حفظ المصالح العامة، وهي وإن كانت حرة التصرف في النوع الأول من الأوقاف العامة لجماعة المسلمين التي أشار إليها الباحث، فهي ليست كذلك في النوع الثاني، والسبب في ذلك أن هذا النوع لا ينطبق عليه تعريف الوقف على إطلاقه، وإنما يعتبر مالاً عاماً أصدر إمام المسلمين قراراً في شأنه وطريقة التصرف فيه مرتكزاً على ولايته العامة والتصرف المنوط بالمصلحة. ويدعم هذا الرأي أن هنالك من الفقهاء من قال إن معنى الوقف هنا عدم قسمة الأرض بين الجنود الفاتحين، وإقرارها على حالها، وضرب الخراج في رقبتها، وليس معناه الوقف المانع من نقل الملك[33"&
أمثلة للوقف في عهد الرسول الكريم1 - يروي ابن عمر – رضي الله عنهما : أن عمر أتى النبي فقال : يارسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر ، ولم أصب مالاً قط أنفس عندي منه ، فما تأمرني فيها ؟ فقال : " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ، غير أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث " أخرجه الشيخان ، والمشهور أنه أول وقف في الإسلام ، وانتشر حتى قال جابر رضي الله عنه مابقي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له مقدرة إلا وقف .2- لما قدم الرسول المدينة وأمر ببناء المسجد قال : يابني النجار ثامنوني بحائطكم هذا – أي بستانكم – فقالوا والله لا نطلب ثمناً إلا إلى الله تعالى ، فأخذه فبناه مسجداً .3 - عن سعد بن عبادة أنه قال : يارسول الله إن أم سعد ماتت ، فأي الصدقة أفضل ؟ قال " الماء " ، فحفر بئراً وقال " هذه لأم سعد ".4- عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً ، فإن شبعه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة حسنات " رواه البخاري .الوقف : حبس الأصل وتسبيل الثمريهودي يتعجب من الوقفألَّف البروفيسور اليهودي إسحاق رايتركتابًا عن نظام الوقف الإسلامي يقول فيه : إنه نظام مهم جدًا ولا يوجد مثله في العالم .. فهو يسمح بتداول الثروة .. هذه المعضلة التي استعصت على كل النظريات والفلسفات والثورات ويتعجب هذا الأستاذ اليهودي من تصفية هذا النظام الإسلامي المتميز بأيدي المسلمين أنفسهم.تعدد روافد الوقف ومنافعهيسجل التاريخ " أن الوليد بن عبد الملك في سنة 88 هـ وقف بعض القرى والمزارع لمسجد أمية بالشام.وقد توسعت مجالات الأوقاف، وشملت مرافق الحياة كلها.وفي أيام الدولة العثمانية اتسعت مساحة الأوقاف كثيرًا، وكانت المدارس، والزوايا، والمساجد، وخدمات البلدية، والمستشفيات، وما إلى ذلك، كل هذه كانت تدار بالأوقاف، ويصرف عليها منها..." .وقد أدى الوقف خلال القرون الطويلة نتائج فاعلة في الحفاظ على القرآن، وتخريج أجيال من القراء والحفاظ، والمفسرين في شرق بلاد الإسلام وغربها، في جميع القرون منذ بدء عصر النبوة المبارك..ويؤكد د‏.‏ رفعت العوضي رئيس قسم الاقتصاد بتجارة الأزهر أن إحياء شعيرة الوقف سيؤدي إلى تخفيف العبء عن الموازنة خاصة في مجالات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والشبابية‏,‏ وأن مجالات الوقف غير محددة ويمكن أن تشمل إقامة الصناعات الحرفية ومراكز التدريب علي الحرف والكمبيوتر والبحث العلمي وإقامة الطرق والمرافق‏,‏ خاصة أنه لا يقتصر علي العقارات والأراضي ولكنه يمتد إلى الأموال المنقولة بل والخدمات‏.‏فالوقف صدقة خيرية ذات تميز واضح كاستثمار مستمر‏,‏ وهو يبعد الصدقة عن الاستهلاك خاصة أن مشكلة الأعمال الخيرية أنها تزيد الاستهلاك بينما الوقف لبناء مدرسة أو مستشفي أو طريق هو عمل خيري استثماري‏,‏ وأن الوقف هو صانع الحضارة الإسلامية وانه كان السبب لعدم قيام وزارات للصحة والتعليم والبيئة والشئون الاجتماعية في عدد من الدول الإسلامية إلى عهد قريب لقيامه بوظائف تلك الوزارات‏.‏ويشير د‏.‏ محمد شوقي الفنجري أستاذ الاقتصاد الإسلامي إلى بعض المجالات التي امتد إليها نشاط الوقف خلال القرون الماضية ومنها المكتبات العامة ورعاية المخطوطات وإقامة البيمارستانات للعلاج ورصف الطرق وصيانتها وتجهيز العرائس الفقيرات بالحلي ورعاية النساء المختلفات مع أزواجهن وتطبيب الحيوانات والطيور والحدائق المخصصة ثمارها لعابري السبيل ومؤسسة نقطة الحليب لإمداد المرضعات بالحليب والسكر وإقامة أسواق التجارة ووكالاتها بالمدن وعلي طرق التجارة‏.‏وإقامة مؤسسات الصناعة مثل السجاد والعطور والقناديل والورق والمنتجات الخشبية والزجاجية والأغذية والملابس‏,‏ وإقامة الأفران للخبز والحمامات العامة للنظافة والعبارات لنقل الناس عبر الأنهار والترع وإقراض المحتاجين بدون عوض وإقامة المطاحن العامة لطحن الحبوب بالمجان وإنشاء القناطر والجسور علي الأنهار والترع وإقامة الخانات التي ينزل فيها المسافرون‏.‏ وهو ما يشير لاتساع مجالات الوقف والتي يمكن أن تخفف العبء عن ميزانية الدولة. كما يمكن أن يمتد نشاط الوقف إلى كل المجالات التي يحتاجها المجتمع مثل البحث العلمي والتدريب والترجمة والإذاعات والصحف المتخصصة والأقمار الصناعية ومحو الأمية واستصلاح الأراضي والبطالة‏.‏